فليغرسها:
قال الرسول صل الله عليه وسلم: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر"، وهو أخر ما كان يتبادر في ذهن السامعين أن يقول لهم الرسول صل الله عليه وسلم هذا الحديث، وقد توقعوا أن يذكرهم بالآخرة ويحثهم على الاستعداد لها، وتنظيف سلوكهم من أجل اليوم الأكبر يوم الحساب، توقعوا كل هذا كي يسرع كل واحد منهم في الاستغفار عن ما قدمت يداه، ويتوجهوا بالدعاء الخالص لله أن يميتهم على الإيمان ويقبل توبته، وتوقعوا أن يقول لهم صل الله عليه وسلم أن يتطهروا ويتركوا أمور الدنيا ويتوجهوا بقلوبهم للآخرة، وأن يذكروا الله وحده بالإخلاص في العبادة، حتى يقبل الله توبتهم ويظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله.
لو قال الرسول لهم ذلك فلا عجب فيه، فمن الطبيعي أن ينصرف الناس للعبادة بعد أن يتيقنوا من القيامة. لكن الرسول صل الله عليه وسلم لم يقل شيئاً من الذي توقعه السامعون، بل قال لهم ما لا يخطر على قلوبهم، وقال لهم إن كان بيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم الساعة فليغرسها فله بذلك أجر!، فكيف يغرس الإنسان الفسيلة التي لا تثمر إلا بعد سنين، وتكون القيامة في طريقها للقيام وعن يقين، فهذا القول لن يقوله إلا نبي الإسلام خاتم النبيين. والإسلام هو الذي يوجه القلوب لهذا التوجيه والنبي صل الله عليه وسلم هو وحده الذي يهتدي هذا الهدي ويهدي به الآخرين، وتاريخ الأرض كله ليس فيه مثل هذه القبسة من قبسات الرسول.
وهناك الكثير من المعاني المستخلصة من هذه الكلمات البسيطة التي يتمي ربها الإسلام أن طريق الآخرة هو طريق الدنيا دون اختلاف، فهما ليسوا منفصلين فأحدهما للدنيا والآخر للآخرة بل هما طريق واحد يشمل كل هذا ويربط بينهما. فطريق العمل والعبادة طريق واحد غير مفترق في نظر الإسلام ويسيروا جنبا لجنب في هذا الطريق، وتوكيد قيمة العمل وإبرازه فكرة واضحة في الإسلام، ويكون إبرازه على أنه طريق الآخرة، وفي الماضي والحاضر مرت على البشرية فترات طويلة تعتقد أن العمل للآخرة يقتضي الانقطاع عن الدنيا والعمل للدنيا يزحم وقت الآخرة.
والفرقة بين الدنيا والآخرة لها جذور عميقة في نفس البشرية تتصل بالكيان البشري في مجموعه فالدنيا والآخرة مفترقان والجسم والروح مفترقان والمادي يفترق عن اللامادي، إلى آخر هذه التفرقات النابعة من نقطة واحدة هي التفرقة بين الدنيا والآخرة وبين السماء والأرض. والفرقة تؤدي بهذه النتائج في العالم الحديث، وتزيد في مدنيتنا الحاضر للبلوغ لمبلغ الجنون والهستريا والأمراض المتزايدة الآخرى في الحضارة الحديثة التي تؤذي بتدمير الطاقة البشرية وتفتيتها. والكيان النفسي وحدة شاملة للعقل والروح والجسم، وشاملة لشهوات الجسد ورغبات النفس، وجزئيات هذا الكيان عند تركها وشأنها ينبت كل نابت منها على هواه، وتوحيد الدنيا والآخرة في طريق هو السبيل لتوحيد هذا الشتات النافر المنتثر.
وعند التقاء طريق الدنيا بالآخرة ويتطابقان فتقترب الأهداف المتعارضة وتلتقي النفس المفردة بكيانها الموحد بكيان الحياة الأكبر، بعد أن توحدت أهدافه، ويربطها قانون واحد شامل، والإسلام هو من يصنع هذه العجيبة في سهولة ويسر وفي نظام واحد، والرسول صل الله عليه وسلم هو الترجمة الصادقة للحقيقة الإٍسلامية، فكل أعماله يقصد بها وجه الله والآخرة، ولم يكف صل الله عليه وسلم عن العمل في الدنيا وفي إصلاح الأرض، فهي حلقة لا تنقطع العمل والعبادة والدنيا والآخرة والأرض والسماء، وهو القدوة الحسنة لتحقيق الإسلام في عالم الواقع، ولم يعتزل الناس لعبادة ربه بل يعبد الله أمامهم، ويخلو لربه في الليل للعبادة لأن كل نفس تهفو للخلوة في وقت من الأوقات، وهو لا ينسى أنه رسول الله والمكلف بأداء رسالة الله، وفي كل لحظات حياته صل الله عليه وسلم كان يعمل في الدنيا لإبتغاء الآخرة ويعمل للآخرة بالعمل في الأرض، وحتى في لحظاته الأخير لم تشغله عن أمور الدنيا والناس وإصلاح الأرض بهداية البشرية ورسم المنهج لكي يسيروا عليه وتوطيد أركان الدين وتوثيق عراه، وحين يشتد الوجع عليه صل الله عليه وسلم قال: "إيتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً"، وكانت في يده الفسيلة ولم يغرسها، ولم يدع يده منها حتى فاضت روحه الكريمة إلى مولاه.
وهذا درس للمسلمون لكي يقتدوا بنبيهم، ويتعلموا أن الدين ليس بعزلة عن الحياة وإنما هو صميم الحياة. وليس من الإسلام أن يحسوا أنه ينبغي عليهم أن يسنوا الله والدين عند دخولهم لمعترك الحياة وعملا لإصلاح الأرض، بل الإسلام أن لا تشغلهم الدنيا عن الآخرة ولا الآخرة عن الدنيا لأنهما طريق واحد لا يفترقان، وحين ذلك يكونون قدوة للأمم كلها على سطح الأرض كما كان الرسول صل الله عليه وسلم قدوتهم، ويكون لهم ما يعلمونه للعالم كله وللغرب المفتون الذي أصابه الجنوب بعد حربين متواليتين ويستعد الآن لتدمير الأرض، ويستطيعوا أن يقولوا لكل الناس لقد ألغيتم الله من حسابكم حين ظننتم أنه يعوقكم عن تعمير الأرض ولكن في الواقع ليس كذلك، بل يدعوا لكل ما تريدونه ويريد منكم فقط توحيد طريقكم ولا تجعلوا للدنيا طريق ولا للآخرة طريق بل هو طريق واحد هو الطريق إلى الله.
والإسلام حين يدعو لتعمير الأرض والعمل في سيبلها لا ينحرف بالأفكار والمشاعر عن طريق الله وطريق الآخرة لأنه لا يفصل الدنيا والآخرة ولا يقول كما يقول الغرب فلأعمر الأرض ولا يعنيني ارتفاع أخلاق الناس أو هبوطها. والمسلمون وهم يؤمنون بدينهم ويعملون به يبنون الحضارات في الأرض ولا ينحرفون عن طريق الله، وطاقة العمل كانت تدفعهم للإنشاء والتعمير، وحين أعاد أبو عبيدة الجزية لأهل الشام بعد حشد جيش الروم وخشي ألا يقدر على حمايتهم، فقد فعل ذلك وهي إحدى معجزات الإسلام لكي يعمل ويجتهد في عمله، وبعد أن أنتصر صلاح الدين في الحروب الصليبية لم يثأر بنفسه منهم، بل صفح وعفا عنهم.
لقد فعل الرسول ذلك عن طريق العمل، وبذلك كان الإسلام فذا في التاريخ. والمسلمون بعد أن اقتضوا برسولهم في العمل لتعمير الأرض، سادوا الأرض في وقت كانت فيه أوربا في جاهلية نتيجة للفرقة والحروب، حتى قبست قبسات من الإسلام في الحروب الصليبية فأفاقت من الغفوة وبدأت تنهض ولكنه على غير طريق الله وطريق الآخرة. والمسلون الكسالى اليوم أمامهم قدوة في الرسول صل الله عليه وسلم تنفعهم ليعملوا بها في كل ميادين العمل. ويغرسوا الفسيلة. والدعاة لهم درس في هذا الحديث فهم أشد الناس تعرضا لليأس وأشدهم حاجة للثبات، وكل البشر معرضون لليأس وهم في حاجة للتشجيع، وهم ليسوا كالدعاة والمصلحون في هذا الشأن، فالدعاة يتعاملون مع النفوس والنفوس أعصى من المادة وأقدر على المقاومة والانحراف. وعندما ييئس الدعاة يتهاوون في الطريق، إلا من أطاقت روحه غرس الفسيلة ولو كانت القيامة تقوم اللحظة على يقين. وهم أحوج الناس أن يتعلموا عن الرسول صل الله عليه وسلم تلك الكلمات وأن يقبسوا من قبسات الرسول هذه اللمحة المضيئة الكاشفة الموحية لتنير في قلوبهم ظلمة اليأس وتغرس الأمل في نفوسهم كما تغرس الفسيلة في الأرض لتثمر بعد حين.
طلب العلم فريضة:
طلب علم فريضة على كل مسلم، وهو النور الذي ينير الله به في مسالك الأرض، وينير السبيل لهم، ليهتدي به الناس في ظلمات البحر والبر. والعلم هي النافذة المفتوحة على المجهول، وهو الطاقة الهائلة التي يمد بها الإنسان في حياته وتوسيع كيانه ولا ينحصر في نفسه، ولا في محيط الأرض، وبه يعرف الحلال من الحرام وهو إمام العمل والعمل تابعه، والعلم هو المنحة الربانية التي يمنحها الله للإنسان ويكرمه بها وهي إحدى معجزات الخلق، وكان حرياً على الإسلام أن يعظم العلم ويحتفل به لأنه يوجه القلوب لكل منحة منحها الله وكل آية من آيات الله، وقد حث الرسول صل الله عليه وسلم على العلم ورفع منزلته لأنه نزل عليه من الوحي.
وعند حث الرسول صل الله عليه وسلم على العلم يظل عجيباً وتظل له الدلالات والإيحاءات الخاصة، وطلب العلم فريضة وهي تشع أمواج من النور وتفتح آفاق من الحياة. وهي فريضة لأنها واجب مفروض على الإنسان أن يؤديه ولا يجوز أن تشغله عنه المشاغل، وهي واجب يؤديه الإنسان لله ويتعبد إليه ويؤديه بأمانة وبإخلاص، وهي عملة يقرب العبد لله عند قيام الإنسان بهذه الفريضة يتقرب من الله ليزداد تعلقه به. وبهذه الروح التي وجهها الله للمسلمون كانوا يأخذون العلم على أنه فريضة. والعلوم امتدت لتشمل المعرفة كلها ومنها علوم الدين واللغة والفلك والطبيعة والرياضيات والكيمياء، والعرب قبل الإسلام لم يكونوا أمة علم بل كان همهم الشعر والبراعة اللغوية ولكن بعد الإسلام حولتهم لقوة هائلة تضرب في كافة الميادين، وأحسوا بالرغبة الشديدة في المعرفة في كل لون، والمعرفة كانت مزدهرة في اليونان والهند والصين وتوجيه الرسول للمسلمين ببذل أقصى الطاقة من أجل العلم.
والروح التي شملت العلم في العالم الإسلامي هي روح الفريضة، والتعاليم التي استقوها من الله والرسول هي التي تسيطر على مشاعرهم، وكان للعلم في نفوس الناس قداسة كقداسة العقيدة، وهو واجب مقدس، فالأستاذ يحصل على العلم لأنه فريضة والطلاب يسعون لطلبه والناس يؤدوه لأن أداءه فريضة، والناس تسعى للمسجد لأنها فريضة. والمحصول العلمي للمسلمين يشهد بالجهد الصادق المبذول فيه، ولم يكن واحد يؤلف ليكسب بل يؤلف بسبب اجتهاده وجهده ووصل لشيء وأذاعه على الناس، والصدق والإخلاص لم يكونوا السمة الوحيدة في علم المسلمين، بل له من ميزاته هو أن العلم فريضة يقرب القلوب إلى الله، ولا يبعدها، والعمل نور الله وهي المعجزة التي وهبها الله للإنسان، والمسلون أحسوا أن لديهم دينا لله يؤدونه لأنه وهب لهم العقل ثم كان العلم الذي يزيدهم إيمان.
وفي التاريخ الإسلامي لم يكن عناك عالم يبحث في الطب أو الفلك أو الطبيعة والكيمياء، يجد نفسه معزول عن العقيدة أو أن العقيدة تعطله عن البحث العلمي الدقيق، والعلم فريضة إلى الله تؤدي كما تؤدي الصلاة والصيام والزكاة. ومن المميزات الأخرى في علوم المسلمين كون العلم فريضة لا تستخدم في الشر أو الإيذاء، وكيف يستخدم في الشر وهو فريضة وعبادة، والعلوم الأخرى التي هي أدنى من علوم المسلمين في مصر الفرعونية كانت تقدر على الشر وتستخدم فيه، واستخدم الكهنة في مصر معارفهم بالعلوم في السحر، ولو أراد المسلمون استخدام العلم في الشر لم تكن تمنعهم بساطة علومهم عن هذا العمل، وهذا هو التاريخ صفحة مضيئة تشهد أن العلم الإسلامية لم يسع للشر ولم يستخدمة وهو فريضة إلى الله يتقر بها العلماء لحماه.
وأوربا كانت وريثة الإمبراطورية الرومانية والثقافة الإغريقية وحضارتها المادية تستمد من هذين المنبعين، وأوروبا لم تكن نصرانية في يوم من الأيام بالرغم من انتشار المسيحية فيها، وتعصب الأوروبيين في الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش، ولم تكن تطبق الدين الحق في يوم من الأيام ولكن كان يجتهدون في أن تلين قلوبهم في المعبد وتتأثر أرواحهم، وعند خروج الناس من الصلاة في المعبد ترتد عنه روح الدين ويعودا للوثنية الرومانية الإغريقية القديمة ليستمدوا مشاعرهم وأفكارهم منها، وظلت في لا شعور الأوربيين تلك النظرة الإغريقية إلى الله تؤثر فيهم وفي إحساسهم الديني.
والأسطورة الإغريقية كانت تصور الله وتصور الآلهة على أنهم بشراً فاثقي القوة مشحونة نفوسهم بالنزوات الطائشة والانحرافات التي يتورع البشر عنها، وفي اسطورة برومثيوس تصور العلاقة بين البشر والآلهة علاقة صراع ليس فيها مشاعر الرحمة والعطف والمودة، وتقوم المعركة على النار المقدسة فالبشر يريدوا الإستيلاء على هذه النار ليعرفوا أسرار الكون والآلهة تردهم عنها في وحشية وعنف، وهي طبيعة العلاقة بين البشر والله، والمعركة تظل كل فتح جديد من فتوحات العلم يخفض الإله ويرفع الإنسان حتى تأتي اللحظة التي يخلق فيها الإنسان الحياة ويصبح هو الله.
والدافع الخفي في أعماق النفس الغربية كان قابع تحت القشرة المسيحية وبعد تفتت القشرة بسبب صراع الكنيسة ودارون وبين الدين والعلم برز على السطح وصار العلماء يتعمدون البعد عن الدين والعقيدة، والآراء التي قالوها أن الإنسان هو الذي خلق الله وليس الله هو الذي خلق الإنسان. وهذه الروح الوثنية في حقيقتها المستكبرة على العبادة نجد المفارقة بين الحسن بن الهيثم في الإسلام ودارون في أوربا حينما يبدا حديثة باسم الله ويطلب التوفيق منه ويحمده، فنجد دارون يكتب عن الحياة والأحياء والتطور عن موضوع يشهد بمعجزة الخلق، ونجده ينفر من ذكر الله، ويقول عن الطبيعة انها تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها، ومن خلق كل هذا أن كانت هذه هي الطبيعة؟
وظروفهم المحلية في أوربا هي التي كفرتهم من الدين والوحشية التي كانت تعامل بها الكنيسة العلماء مثل جاليليو وتعذبهم وتحرقهم ربما كانت هذه الوحشية هي التي أوجدت الخصومة والبغضاء بين العلماء والدين، وعند حدوث الفرقة العنيفة بين العلم والدين في أوربا منذ أن سار كل واحد منهم في طريق مخالف للطريق الآخر، والعلماء بعد تطلعهم على العلوم الكثيرة لكنهم رفضوا السير في طريق العقيدة وطريق الهداية إلى الله. وبعد اختلاط أوربا بالمسلمين نقلت عنهم المعارف والعلم لكنها أبت أن تأخذ العقيدة، وأصبح العلم أداة الكفر ليبعد الإنسان عن الله.
والمسلمون في حاجة لحكمة الرسول صل الله عليه وسلم ليتدبرونها، وفي حاجة لرجوعهم للعلم، لأنهم لا يعطونه الاحترام كما تعطيه أوربا الكافرة وهم في حاجة لهدي الرسول ليردهم إلى احترام وتقدير العلم واحترامه وقداسته، ويأخذوه في استخفاف لو كانوا طلبة في المدارس والمعاهد وأساتذة يدرسون للطلاب، ولا يعطونه العناية والاحترام كما تعطيه أوربا الكافرة وهم أولى منهم بالتقاليد العلمية التي سار عليها جدودهم الذين عاشوا في ظل الإسلام واستمدوا من روحه، وفي حاجة لهدي الرسول صل الله عليه وسلم ليردهم لإحترام وتقدير العلم ويعيد لهم روح الإخلاص والجد والسلام للقلب البشري الذي تمزق بين العلم والدين.
قبل أن تدعوا فلا أجيب:
عن عائشة رضي الله عنها قالب: دخل على النبي – صل الله عليه وسلم – فعرفت في وجهه أن قد حضره شيء، وتوضأ وما كلم أحد فلصقت بالحجرة أستمع لما يقول وقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال "يأيها الناس إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم" فما زاد عليهن حتى نزل. رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه.
أحقاً يدعو الناس فلا يستجيب الله لهم؟ والله يقول وسعت رحمتي كل شيء؟ ويقول الله وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان"؟ وماذا يبقى للناس إذن؟ ماذا يبقى لهم إذا أوصدت من دونهم رحمة الله؟ ولمن يلجئون في هذا الكون العريض كله وقد أوصد الباب الأكبر الذي توصد بعده جميع الأبواب ويبقى الإنسان في العراء الكامل الذي لا يستر شيء ولا يحميه من لفحة الهاجرة وقسوة الزمهرير؟ وهو الهول البشع الذي يتحامى الخيال ذاته أن يتخيله لأنه أفظع من أن يطيقه الخيال. ذلك المخلوق البائس الذي يدعو الله فلا يجيبه ويسأله فلا يعطيه ويستنصره فلا ينصره. وهل كتب الله على عباده المسلمين الذين يدعونه ويسألونه ويستنصرونه؟ نعم حيث يكفون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد اقتضت إرادة الله أن يكون الإنسان خليفة في الأرض وأن يستمد الإنسان قوته من الله.
والإنسان هو الذي يعمل وينتج وقد غير الواقع وينشئ النظم ويقيم الأوضاع وهو القوة الإيجابية في الأرض وفي اللحظة التي يسلم كيانه لله بل من هذا الإسلام الكامل لله يستمد طاقته الإيجابية كلها على الأرض. وقد أختار الله أن يكون الإنسان هو أداته العاملة في الأرض. والله ليس مقيداً بسنته ولا محكوما بها والله يصنع الخوارق والمعجزات حين يريد وفق حكمته التي يعلمها وحده. ومشيئته هي التي اقتضت أن تسير الأمور على هذه السنة حتى يعرف الناس النتائج حين يعرفون الأسباب. والعلم الذي علمه الناس منذ البدء حتى اليوم والمخترعات التي اخترعوها والفوائد التي جنوها لم تكن توجد لولا ثبوت السنة وإطرادها وعدم تخلفها. وكل تجارب البشرية لم تكن لتقوم لولا ثبوت هذه السنة وإطرادها وهو الذي يجعل للتجربة قيمة ومجالا للفائدة. وما قيمة التجارب إذا كانت كل تجربة منقطعة عن غيرها قائمة بذاتها لا تتصل بشيء ولا تنتهي إلى شيء. هي رحمة الله إذن بالناس أن يجعل لهم سنة ثابتة ويجعلها واضحة: "قد خلت من قبلكم سنن، فسيروا في الأرض فانطروا كيف كان عاقبة المكذبين. هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين". سورة آل عمران [137 - 138]. واقتضت السنة أن يكون البشر هم أدوات العمل في الأرض وأدوات التغيير.
ولن يعجز الله سبحانه أن يغير ما بالقوم دون أن يغيروا ما بأنفسهم فهو القاهر فوق عباده وهو المتصرف وحده في الجميع بما يشاء وكيفما يشاء. ولكنه شاء أن يكون الإنسان عنصراً إيجابياً في الحياة وأن يكون التغيير مرتبطاً بإرادة الإنسان مقضياً عن طريقه نافذاً من خلاله ممتزجاً بكيانه كله من عمل وفكر وشعور. ويجب على الإنسان أن يحمد الله أن جعل له كل هذه القيمة في الأرض ولهذا التكريم تبعاته ومقتضياته. تبعاته أن يكون الإنسان قوة إيجابية حقاً وأن يعمل بمقتضى ذلك في واقع الحياة وأن يعمل ويكافح ويصارع ولا يسلم وينخذل، وأن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويؤمن بالله، وأن يغير المنكر بيده أو بلسانه أو بقلبه. وكل شأن من شئون الناس يمكن أن يجري بالمعروف أو المنكر وتبعات الإنسان تستلزم ملاحقته لهذه الشئون كلها والرقابة عليها. تلك سنة الله وقد اقتضت سنته أن يراقب الناس شئون الأرض ويدفع بعضهم بعضها إلى الصلاح والرشد وإلا فسدت الأرض. وهذه التبعية ثقيلة تنوء بحملها الأكتاف وهي السبيل الأوحد لانتظام الأموة، وحين يؤدي كل إنسان واجبه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإيمان بالله لا يجرؤ الباطل أن يعيش ولا يجرؤ المنكر أن يستأسد ويظل الحق هو القوة الغالبة الفعالة التي تسيطر على الأمور.
وقد جرت سنة الله بذلك في التاريخ. والأمة الحية المتيقظة التي تراقب شئونها بنفسها فهي الأمة الناجحة وهي التي تملك السلطان. والأمة المهملة المتراخية التي يسيطر الباطل فيها على شئون الناس فهي الأمة الفاشلة التي حل بها الدمار. وقوة المجتمع وضعفه رهين بهذا. والمجتمع الذي يتناصح الناس فيه بالخير ويتناهون عن المنكر هو المجتمع المترابط المتساند القوي الذي يتقدم للأمام والذي يأتي المنكر فيه كل إنسان على مزاجه هو المجتمع المفكك المنحل الذي ينتقل من ضعف إلى ضعف. "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون" سورة المائدة [78 - 79]. وكذلك لعن الغرب في التاريخ الحديث. والمسلمون الأوائل الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كانوا أمة قوية قاهرة غلابة استطاعت أن تكافح كل قوى الشر وتعيش تكافح الحكومات الظالمة من داخلها والغزاة من خارجها وتصمد لهذا الشر كله وتتغلب عليه، ولما تعبوا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جرت عليهم السنة الأبدية الخالدة التي بينها لهم الله وحذرهم منها فألتهمتهم قوى الشر من الداخل والخارج على السواء.
ويبدو لأول وهلة أن العامل الإسلامي ضعف وهان واستعُمر لأنه غرق في الجهالة والانحطاط والجمود وانقسم على بعضه فتنازعته الأحقاد. ولأن حكامه كانوا يظلمون الشعب. وتضاءلت القوة الحربية والإنتاجية للعالم الإسلامي وكانت أوربا تصعد في كل ميدان. وذلك الحق والصدق إلا السكوت عن المنكر وعدم الأمر بالمعروف، الله أمر بالعدل "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" سورة النساء [58] وعدم السكوت للظلم "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً" سورة النساء [97].
والله أمر بإعداد العدة واستحضار القوة "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" سورة الأنفال [60]. ولكنهم ضعفوا واستكانوا ولم يطالبوا بالجهاد في سبيل الله. والله كرم الإنسان بالعلم وحض عليه رسوله. وأمر الله بألا يكون المال "دولة بين الأغنياء منكم" سورة الحشر [7]. وأمر الرجال بأن يعاشروا النساء بالمعروف فعاشروهن بالظلم وأجحفوا بحقوقهن. وعند ذلك جرت عليهم سنة الله وغضب عليهم الله فاستعبدوا وهم الأعلون لو كانوا مؤمنين. وتلك هي سنة الله يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويدعونه فلا يستجيب لهم ويسألونه فلا يعطيهم ويستنصرونه فلا ينصرهم. لأنهم شاءت حكمته ذللك هم أدوات الله في الأرض وعن طريقهم ينفذ الله أمره وكذلك اقتضت سنته فالله سبحانه لا يعجز عن التغيير بغير تلك الأدوات أو بغير أدوات على الإطلاق ولكن تكريماً لهذا الخليفة في الأرض ومنحه حرية التصرف وحرية السلوك.
التأكيد على أن المؤمنين كلهم أخوة:
من نعم الله عز وجل على الانسان انه جعله لا يستطيع ان يعيش بمفرده، ومن نعمته على عباده المؤمنين انهم يجتمعون على ما نهى الله وما امر به، كما ان الألفة والمحبة التي يضعها الناس في قلوبهم من اكثر النعم، يقول تعالى عز وجل في كتابه العزيز: "واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا". ويقول سيد الخلق وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيات يشد بعضه بعضا". فهذا هو الإسلام الذي يسعى دائما الى التوفق والتقارب بين الناس، وان يكونوا اخوة في الدنيا حتى ينالوا ذلك في الاخرة، فكثيراً ما توضح لنا مواقف رسولنا الكريم على الأخوة، فمنذ ان جاء برسالته الكريمة وهو يحثنا على ذلك ويعلمنا اياه من خلال مواقفه. فقد قال أبو عمرو الاوزعي: حدثني عبدة بن أبي لبابة عن مجاهد ولقيته فأخذ بيدي فقال: إذا التقى المتحابان في الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه، محيت خطاياهما، كما تمحى أوراق الشجر ، قال عبدة فقلت : إن هذا ليسير! فقال لا تقل ذلك فإن الله تعالى يقول: ) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (.
إن المؤاخاة: مودة بين إثنين فأكثر، تقوم على الحب والتصافي والتبادل كما بين الأخ وأخيه. وإن الناظر الى الفائدة من الأخوة كما امر بها الإسلام هي تعمير الدنيا والاخرة، فتعمير الدنيا يكون من خلال تعاون الناس بعضها لبعض وحبهما لبعضهما والوقوف في وجه الشر، فالألفة بينهم هي من تؤهلهم لذلك لتكوين مجتمع متماسك قوي البنيان، وقد نجد التعاون بينهم لا قيمة له بدون أن يكون هناك الفة بينهم ، فسوف يكون متضادين ونقيضان لكل فعل او امر يصدر من احدهما، اما الالفة قادرة على ان توضح عكس ذلك، وان تجعل منهم اخوة متحابين.
جاء الاسلام وغير عادات الجاهلية بكل ما فيها، ونقل الناس الى من الجهل والظلمات الى النور، فكانوا في بادئ الأمر يقولون ان الاسلام يفرق بين الابن وابيه وبين الرجل وزوجته، ولكنهم ادركوا ان الاسلام جمع هذه الروابط الأسرية على الحق، ووضح لهم اين تكمن الحقوق، وكيف ينصر المظلوم، ولا فرق بين احداً الا بالتقوى والعمل الصالح، فعمل على تطهير النفوس وحماها من الجهل والتعصب وجعلها تتألف على شيء واحد وهو دين الله، فانطلقوا وجاهدوا وفتح الله عليهم ، فلولا تألفهم وحبهم لبعضهم لما تركوا لنا هذه الحضارة العريقة، فكيف لنا ان نبني عمارة ضخمة دون ان نضع بين طوبة واخرى رابط لكي يتثبت بها حتى تظهر لنا متماسكة وصلبة، وهذا هو الإسلام آلف بين قلوب المسلمين فاستطاعوا بناء هذه الأمة، بل استطاعوا ايضاً ان يتصدوا في وجه اعدائهم، فلم يكن في الجاهلية غير الصراع بين طبقة واخرى، وبين تاجر واخر، وبين سيد وعبد، ويوضح لنا ذلك الدكتور عبد الحليم عويس قائلاً :" التفاضل الطبقي والجاهلية وتقديس بعض الناس وصراع الأجناس كانت موجودة قبل الإسلام في حضارة الفرس والروم وداخل الجزيرة العربية، ومن أهم أعمال الإسلام القضاء على دعاوي الجاهلية، وشرع الإسلام الإخاء بين المسلمين جميعا عرباً وعجماً وأغنياء وفقراء وأقام دولته على هذا الإخاء."
من أهم مميزات الإسلام جعله المسلمين أمة واحدة تجمعهم قواعد الدين ومبادئ القرآن الكريم وسنة الرسول الكريم رغم الفوارق التي بينهم. ومن خلال كل هذا نجد ان الاسلام هو اول من حارب العنصرية وقضى عليها لتصبح كافة الناس عند الله سواء، ولا فرق لأحد على أحد، وبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا فرق بين عربي و لا أعجمي و لا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى" اليس يذلك يحسب الى الاسلام والى رسال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
إن أشد ما نحتاج اليه في وقتنا الحالي هو الأخوة بين الناس وبعضها بين الشعوب والمجتمعات الإسلامية ، فقدت اصبحت الاخوة في ذلك الوقت هي المصلحة او امر ما عندما ينقضي هذا الأمر تزول الاخوة والتألف بين الناس، وهذا لم يأمر به الإسلام ، فكي نصبح مجتمع قوي متحاب في الله علينا ان أخوة متعاونين مع بعضنا لبعض، كما كانوا السابقين ، ويقول الدكتور عبد العزيز كامل عن المؤثرات التي تزيد من الخلاف في العالم الإسلامي فيقول: "أستطاعت الحضارة الغربية منذ القرن السادس عشر الإحاطة بالعالم الإسلامي وحرمانه من موارده الضخمة وجعل الحضارة الإنسانية أوربية المصدر وغزو العالم الإسلامية والأفريقي والآسيوي ونشر كنائسها الإلحاد ووجد العالم الإسلامي نفسه أمام غزو كاسح" ولما هذا لأننا اصبحنا غير متماسكين اصبح كل منا يبحث عن ملذاته في الدنيا، فما كان يجمعنا هو نصرة دين الله ورفع رايته، وعندما ابتعدنا عن ذلك جاء غيرنا وانتهز فرصته في القضاء علينا، فنحن بحاجة اليوم الى رابطة الأخوة بين المسلمين فهي الدواء الوحيد للتصدي لمن انتهزوا هذه الفرص، فيجب ان تتحدد الأمة الإسلامية جميعاً على قلب رجل واحد حتى يتحقق ذلك.
ان الأخوة بين المسلمين ليست شعار كما يطلق عليها البعض، وانما هي الغاية من غايات الشرع الحنيف. وهذا ما كان يؤكد عليه دائماً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتآخي بين المسلمين دعوة قائمة على مبدأ جماعي يجب على جميع الأفراد أن يسلكوه. وشعائر الإسلام المقررة من الله هي من الركائز المهمة التي تعمل على الوحدة العامة. ورسول الله صل الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره لله يوم القيامة.
إن ما يربط بين الانسان المسلم وآخاه المسلم هو الحب في الله والايمان به ، ويجب ألا يهجر المؤمن مؤمناً أخر، لأن والإسلام حريص على الجماعة الإسلامية وتماسكها، لانهم عصبة هذا وحمايته بعد الله عز وجل ، فقد حرص الإسلام على ان لا يصدر من مؤمن لمؤمن آخر فعل يؤذيه إيذاء نفسي أو بدني أو يضره في ماله، فقد نهانا عن ذلك، وامر بالتودد والمحبة فيما بين ومساعدة من يحتاج الى مساعدة ، حتى ترتقي بذلك الجماعة الإسلامية، ويستمر بقاؤها وتماسكها. ودائما ما يحاول اعداء الاسلام توهين الرابطة الإسلامية، وإعلاء رابطة العنصرية بين الشعوب الإسلامية وما يترتب على ذلك من آثاره السلبية على المجتمع الاسلامي ككل. وهذه الدعوة العنصرية جرثومة خبيثة هدامة، وهذه العنصرية كانت من أكثر عوامل هزيمة المسلمين في الأندلس والصراعات المختلفة هي التي بددت قوى المسلمين في الأندلس ومكنت عدوهم منهم.